فصل: فَصْلٌ: (شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ لِلْعِبَادِ وَدَلَالَتَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


‏[‏مَرَاتِبُ التَّوْحِيدِ‏]‏

فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي التَّوْحِيدِ وَحُقُوقِهِ وَجَزَائِهِ، وَفِي شَأْنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَجَزَائِهِمْ فَـ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏}‏ تَوْحِيدٌ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ تَوْحِيدٌ ‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ تَوْحِيدٌ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ تَوْحِيدٌ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ تَوْحِيدٌ ‏{‏وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ تَوْحِيدٌ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ تَوْحِيدٌ مُتَضَمِّنٌ لِسُؤَالِ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ الَّذِينَ فَارَقُوا التَّوْحِيدَ، وَلِذَلِكَ شَهِدَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا التَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لَهُ بِهِ مَلَائِكَتُهُ، وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ، قَالَ‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏}‏‏.‏

فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ إِثْبَاتَ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، وَالرَّدَّ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، وَالشَّهَادَةَ بِبُطْلَانِ أَقْوَالِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بَعْدَ فَهْمِ الْآيَةِ بِبَيَانِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْحَقَائِقِ الْإِيمَانِيَّةِ‏.‏

فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ أَجَلَّ شَهَادَةٍ، وَأَعْظَمَهَا، وَأَعْدَلَهَا، وَأَصْدَقَهَا، مِنْ أَجَلِّ شَاهِدٍ، بِأَجَلِّ مَشْهُودٍ بِهِ، وَعِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي ‏"‏ شَهِدَ ‏"‏ تَدُورُ عَلَى الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، وَالْإِعْلَامِ وَالْبَيَانِ، وَالْإِخْبَارِ، قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ حَكَمَ، وَقَضَى، وَقَالَ الزَّجَّاجُ‏:‏ بَيَّنَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ أَعْلَمَ وَأَخْبَرَ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا حَقٌّ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَتَضَمَّنُ كَلَامَ الشَّاهِدِ وَخَبَرَهُ، وَقَوْلَهُ، وَتَتَضَمَّنُ إِعْلَامَهُ، وَإِخْبَارَهُ وَبَيَانَهُ، فَلَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ مَرَاتِبُ الشَّهَادَةِ، فَأَوَّلُ مَرَاتِبِهَا‏:‏ عِلْمٌ، وَمَعْرِفَةٌ، وَاعْتِقَادٌ لِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَثُبُوتِهِ، وَثَانِيهَا‏:‏ تَكَلُّمُهُ بِذَلِكَ، وَنُطْقُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهِ غَيْرَهُ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِهِ مَعَ نَفْسِهِ وَيَذْكُرُهَا، وَيَنْطِقُ بِهَا أَوْ يَكْتُبُهَا، وَثَالِثُهَا‏:‏ أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِمَا شَهِدَ بِهِ، وَيُخْبِرَهُ بِهِ، وَيُبَيِّنَهُ لَهُ، وَرَابِعُهَا‏:‏ أَنْ يُلْزِمَهُ بِمَضْمُونِهَا وَيَأْمُرَهُ بِهِ‏.‏

فَشَهَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ‏:‏ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ‏:‏ عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، وَتَكَلُّمَهُ بِهِ، وَإِعْلَامَهُ، وَإِخْبَارَهُ لِخَلْقِهِ بِهِ، وَأَمْرَهُمْ وَإِلْزَامَهُمْ بِهِ‏.‏

‏[‏مَرْتَبَةُ الْعِلْمِ‏]‏

أَمَّا مَرْتَبَةُ الْعِلْمِ مِنْ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ‏:‏ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ تَتَضَمَّنُهَا ضَرُورَةً، وَإِلَّا كَانَ الشَّاهِدُ شَاهِدًا بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ وقال النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ وَأَشَارَ إِلَى الشَّمْسِ‏.‏

‏[‏مَرْتَبَةُ التَّكَلُّمِ وَالْخَبَرِ‏]‏

وَأَمَّا مَرْتَبَةُ التَّكَلُّمِ وَالْخَبَرِ مِنْ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ‏:‏ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ وَأَخْبَرَ بِهِ فَقَدْ شَهِدَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالشَّهَادَةِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ‏}‏‏.‏

فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ شَهَادَةً، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يُؤَدُّوهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ هِيَ قَوْلُ الزُّورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏ وَعِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ فَسَمَّى قَوْلَ الزُّورِ شَهَادَةً، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى إِقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةً، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ‏}‏ فَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ‏:‏ هِيَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ الْأَسْلَمِيِّ‏:‏ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ رَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ‏}‏‏.‏

وَهَذَا- وَأَضْعَافُهُ- يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ‏:‏ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ- وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَالْعَشَرَةُ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْجَنَّةِ، لَمْ يَتَلَفَّظْ فِي شَهَادَتِهِ لَهُمْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، بَلْ قَالَ‏:‏ أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ الْحَدِيثَ‏.‏

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هَلْ يُسْلِمُ وَلَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالشَّهَادَةِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ إِسْلَامُهُ عَلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ‏:‏ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ شَوَاهِدُهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَيْسَ مَعَ مَنِ اشْتَرَطَ لَفَظَ الشَّهَادَةِ، دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مَرْتَبَةُ الْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ‏]‏

وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ، مِنْ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ فَنَوْعَانِ‏:‏ إِعْلَامٌ بِالْقَوْلِ، وَإِعْلَامٌ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُعْلِمٍ لِغَيْرِهِ بِأَمْرٍ‏:‏ تَارَةً يُعْلِمُهُ بِقَوْلِهِ، وَتَارَةً بِفِعْلِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جَعَلَ دَارًا مَسْجِدًا، وَفَتَحَ بَابَهَا لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ إِلَيْهَا، وَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا‏:‏ مُعْلِمًا أَنَّهَا وَقْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ وُجِدَ مُتَقَرِّبًا إِلَى غَيْرِهِ بِأَنْوَاعِ الْمَسَارِ‏:‏ مُعْلِمًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِقَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَبَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ، يَكُونُ بِقَوْلِهِ تَارَةً، وَبِفِعْلِهِ تَارَةً أُخْرَى، فَالْقَوْلُ‏:‏ هُوَ مَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَمِمَّا قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ‏:‏ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أَخْبَرُوا عَنِ اللَّهِ‏:‏ أَنَّهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَشْهَدُوا بِهِ، وَشَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَعْلُومَةٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّ مَنْ بَلَّغَ عَنْهُ كَلَامَهُ‏.‏

وَأَمَّا بَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ بِفِعْلِهِ‏:‏ فَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ خَبَرُهُ تَعَالَى عَنِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ الَّتِي تُعْلَمُ دَلَالَتُهَا بِالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَهَذَا أَيْضًا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الدَّلَالَةِ، وَالْإِرْشَادِ وَالْبَيَانِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُبَيِّنُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ وَيُظْهِرُهُ، كَمَا يُبَيِّنُهُ الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْبَيَانُ بِالْفِعْلِ أَظْهَرَ وَأَبْلَغَ، وَقَدْ يُسَمَّى شَاهِدُ الْحَالِ نُطْقًا وَقَوْلًا وَكَلَامًا، لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، وَأَدَائِهِ مُؤَدَّاهُ، كَمَا قِيلَ‏:‏

وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً *** وَحَدَّرَتَا بِالدُّرِّ لَمَّــا يُثْقَـبِ

وَقَالَ الْآخَرُ‏:‏

شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّـرَى *** صَبْرًا جَمِيلًا فَكِــلَانَا مُبْتَلَى

وَقَالَ الْآخَرُ‏:‏

امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْـنِي *** مَهْلًا رُوَيْـدًا قَدْ مَلَأْتَ بَطْنِي

وَيُسَمَّى هَذَا شَهَادَةً أَيْضًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ، شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ‏}‏ فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يَفْعَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ وَأَقْوَالِهِ، فَهِيَ شَهَادَةٌ بِكُفْرِهِمْ، وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَشْهَدُ بِمَا جَعَلَ آيَاتِهِ الْمَخْلُوقَةَ دَالَّةً عَلَيْهِ، فَإِنَّ دَلَالَتَهَا إِنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ وَجَعْلِهِ، وَيَشْهَدُ بِآيَاتِهِ الْقَوْلِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُطَابِقَةِ لِمَا شَهِدَتْ بِهِ آيَاتُهُ الْخَلْقيَّةُ، فَتَتَطَابَقُ شَهَادَةُ الْقَوْلِ وَشَهَادَةُ الْفِعْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏، أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَدُلُّ بِآيَاتِهِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ عَلَى صِدْقِ آيَاتِهِ الْقَوْلِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْفِعْلِيَّةُ قَدْ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ، قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ بِتَدْبِيرِهِ الْعَجِيبِ وَأُمُورِهِ الْمُحْكَمَةِ عِنْدَ خَلْقِهِ‏:‏ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ- وَهِيَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ وَالْإِلْزَامُ بِهِ

مِنْ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ الْأَمْرُ وَالْإِلْزَامُ بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، لَكِنِ الشَّهَادَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَتَتَضَمَّنُهُ- فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِدَ بِهِ شَهَادَةَ مَنْ حَكَمَ بِهِ، وَقَضَى وَأَمَرَ، وَأَلْزَمَ عِبَادَهَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏، وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ‏.‏

وَوَجْهُ اسْتِلْزَامِ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَدْ أَخْبَرَ، وَبَيَّنَ وَأَعْلَمَ، وَحَكَمَ وَقَضَى‏:‏ أَنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ، وَأَنَّ إِلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَإِثْبَاتَهَا أَظْلَمُ الظُّلْمِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، كَمَا لَا تَصْلُحُ الْإِلَهِيَّةُ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِهِ وَحْدَهُ إِلَهًا، وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ مَعَهَا إِلَهًا، وَهَذَا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، كَمَا إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَسْتَفْتِي أَوْ يَسْتَشْهِدُ، أَوْ يَسْتَطِبُّ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَيَدَعُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، فَتَقُولُ‏:‏ هَذَا لَيْسَ بِمُفْتٍ وَلَا شَاهِدٍ وَلَا طَبِيبٍ، الْمُفْتِي فُلَانٌ، وَالشَّاهِدُ فُلَانٌ، وَالطَّبِيبُ فُلَانٌ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْكَ وَنَهْيٌ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، تَضَمَّنَ هَذَا الْإِخْبَارُ‏:‏ أَمْرَ الْعِبَادِ وَإِلْزَامَهُمْ بِأَدَاءِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْقِيَامَ بِذَلِكَ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا شَهِدَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَضَمَّنَتْ شَهَادَتُهُ الْأَمْرَ وَالْإِلْزَامَ بِتَوْحِيدِهِ‏.‏

وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجُمَلِ الْخَبَرِيَّةِ، فَيُقَالُ لِلْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ قَضِيَّةٌ وَحُكْمٌ وَقَدْ حَكَمَ فِيهَا بِكَيْتَ وَكَيْتَ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ فَجَعَلَ هَذَا الْإِخْبَارَ الْمُجَرَّدَ مِنْهُمْ حُكْمًا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ لَكِنَّ هَذَا حُكْمٌ لَا إِلْزَامَ مَعَهُ، وَالْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏:‏ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِلْزَامِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى ‏"‏ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ‏"‏‏]‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏}‏ تَفْسِيرُ ‏"‏ الْقِسْطِ ‏"‏‏:‏ هُوَ الْعَدْلُ، فَشَهِدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ‏:‏ أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْعَدْلِ فِي تَوْحِيدِهِ، وَبِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي عَدْلِهِ، وَالتَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ هُمَا جِمَاعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ يَتَضَمَّنُ تَفَرُّدَهُ سُبْحَانَهُ بِالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْمَجْدِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَالْعَدْلُ يَتَضَمَّنُ وُقُوعَ أَفْعَالِهِ كُلِّهَا عَلَى السَّدَادِ وَالصَّوَابِ وَمُوَافَقَةِ الْحِكْمَةِ‏.‏

فَهَذَا تَوْحِيدُ الرُّسُلِ وَعَدْلُهُمْ‏:‏ إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ، وَالْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِثْبَاتُ الْقَدَرِ وَالْحِكَمِ، وَالْغَايَاتِ الْمَطْلُوبَةِ الْمَحْمُودَةِ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، لَا تَوْحِيدَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، الَّذِي هُوَ إِنْكَارُ الصِّفَاتِ وَحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَعَدْلُهُمْ، الَّذِي هُوَ‏:‏ التَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ، أَوْ نَفْيُ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ وَالْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي يَفْعَلُ اللَّهُ لِأَجْلِهَا وَيَأْمُرُ، وَقِيَامُهُ سُبْحَانَهُ بِالْقِسْطِ فِي شَهَادَتِهِ يَتَضَمَّنُ أُمُورًا‏.‏

أَحَدَهَا‏:‏ أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ أَعْدَلُ شَهَادَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنْكَارُهَا وَجُحُودُهَا أَعْظَمُ الظُّلْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا أَعْدَلَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَلَا أَظْلَمَ مِنَ الشِّرْكِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَائِمٌ بِالْعَدْلِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، حَيْثُ شَهِدَ بِهَا، وَأَخْبَرَ وَأَعْلَمَ عِبَادَهُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ تَحْقِيقَهَا وَصِحَّتَهَا، وَأَلْزَمَهُمْ بِمُقْتَضَاهَا، وَحَكَمَ بِهِ، وَجَعَلَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ حُقُوقِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، فَالدِّينُ كُلُّهُ مِنْ حُقُوقِهَا، وَالثَّوَابُ كُلُّهُ عَلَيْهَا، وَالْعِقَابُ كُلُّهُ عَلَى تَرْكِهَا‏.‏

وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَأَوَامِرُهُ كُلُّهَا تَكْمِيلٌ لَهَا، وَأَمْرٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهَا، وَنَوَاهِيهِ كُلُّهَا صِيَانَةٌ لَهَا عَمَّا يَهْضِمُهَا وَيُضَادُّهَا، وَثَوَابُهُ كُلُّهُ عَلَيْهَا، وَعِقَابُهُ كُلُّهُ عَلَى تَرْكِهَا، وَتَرْكِ حُقُوقِهَا، وَخَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا كَانَ بِهَا وَلِأَجْلِهَا، وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ، وَضِدُّهَا هُوَ الْبَاطِلُ وَالْعَبَثُ الَّذِي نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ‏:‏ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ بِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، قَالَ تَعَالَى- رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ- ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ‏}‏، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ‏}‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ‏}‏ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَلِأَجْلِهِ‏:‏ هُوَ التَّوْحِيدُ، وَحُقُوقُهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَالشَّرْعُ وَالْقَدَرُ، وَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ قَائِمٌ بِالْعَدْلِ، وَالتَّوْحِيدُ صَادِرٌ عَنْهُمَا، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي عَلَيْهِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ تَعَالَى- حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ- ‏{‏إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَهُوَ يَقُولُ الْحَقَّ، وَيَفْعَلُ الْعَدْلَ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏، ‏{‏وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏}‏‏.‏

فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ- الَّذِي عَلَيْهِ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى-‏:‏ هُوَ مُقْتَضَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِلصَّنَمِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَالصَّنَمُ مَثَلُ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ، أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏}‏ هُوَ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏}‏ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي ‏"‏ شَهِدَ اللَّهُ ‏"‏ وَالْعَامِلُ فِيهَا الْفِعْلُ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ حَالَ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ‏:‏ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ ‏"‏ هُوَ ‏"‏ وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، حَالَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، وَبَيْنَ التَّقْدِيرَيْنِ فَرْقٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ‏:‏ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمَعْنَى‏:‏ ‏"‏ شَهِدَ اللَّهُ ‏"‏ مُتَكَلِّمًا بِالْعَدْلِ، مُخْبِرًا بِهِ، آمِرًا بِهِ، فَاعِلًا لَهُ، مُجَازِيًا بِهِ- أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَإِنَّ الْعَدْلَ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْمُقْسِطُ هُوَ الْعَادِلُ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَشَهِدَ اللَّهُ قَائِمًا بِالْعَدْلِ- قَوْلًا وَفِعْلًا- أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَفِي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ شَهَادَةَ عَدْلٍ وَقِسْطٍ، وَهِيَ أَعْدَلُ شَهَادَةٍ، كَمَا أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ أَعْدَلُ شَيْءٍ، وَأَصَحُّهُ وَأَحَقُّهُ، وَذَكَرَ ابْنُ السَّائِبِ وَغَيْرُهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ مَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ حَبْرَيْنِ مِنْ أَحْبَارِ الشَّامِ قَدِمَا عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا أَبْصَرَا الْمَدِينَةَ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ‏:‏ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَا لَهُ‏:‏ أَنْتَ مُحَمَّدٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، وَأَحْمَدُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَا‏:‏ نَسْأَلُكَ عَنْ شَهَادَةٍ، فَإِنْ أَخْبَرَتْنَا بِهَا آمَنَّا بِكَ، قَالَ‏:‏ سَلَانِي، قَالَا‏:‏ أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَمِ شَهَادَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏{‏- الْآيَةَ وَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ كَانَ الْمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُ كَانَ سُبْحَانَهُ يَشْهَدُ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْعَدْلِ عَالِمٌ بِهِ، لَا بِالظُّلْمِ، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَضَمَّنَتْ قَوْلًا وَعَمَلًا، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ‏:‏ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَحْدَهُ‏:‏ هُمُ الْمُفْلِحُونَ السُّعَدَاءُ، وَأَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ هُمُ الضَّالُّونَ الْأَشْقِيَاءُ، فَإِذَا شَهِدَ قَائِمًا بِالْعَدْلِ- الْمُتَضَمِّنِ جَزَاءَ الْمُخْلِصِينَ بِالْجَنَّةِ، وَجَزَاءَ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّارِ-‏:‏ كَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ مُوجَبِ الشَّهَادَةِ وَتَحْقِيقِهَا، وَكَانَ قوله‏:‏ ‏{‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏}‏ تَنْبِيهًا عَلَى جَزَاءِ الشَّاهِدِ بِهَا وَالْجَاحِدِ لَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّانِي

وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ قَائِمًا ‏"‏ الْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ‏"‏ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ‏"‏ حَالًا مِمَّا بَعْدَ إِلَّا- فَالْمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْعَدْلِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ، مَعَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَرْجَحُ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ‏:‏ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَأُولِي الْعِلْمِ يَشْهَدُونَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ قوله‏:‏ ‏{‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏}‏ حَالًا مِنَ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَهُوَ كَالصِّفَةِ لَهُ، فَإِنَّ الْحَالَ صِفَةٌ فِي الْمَعْنَى لِصَاحِبِهَا، فَإِذَا وَقَعَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى ذِي الْحَالِ وَصَاحِبِهَا كَانَ كِلَاهُمَا مَشْهُودًا بِهِ، فَيَكُونُ الْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَدْ شَهِدُوا بِأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، كَمَا شَهِدُوا بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ- قَائِمًا بِالْقِسْطِ- أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةَ وَأُولُو الْعِلْمِ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏:‏ كَانَ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ حَالًا مِنِ اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ‏.‏

وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ كَوْنِهِ حَالًا مِنْ مُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَإِذَا كَانَ حَالًا مِنْ ‏"‏ هُوَ ‏"‏ فَهَلَّا اقْتَرَنَ بِهِ‏؟‏ وَلِمَ فُصِلَ بَيْنَ صَاحِبِ الْحَالِ وَبَيْنَهَا بِالْمَعْطُوفِ، فَجَاءَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ صَاحِبِ الْحَالِ وَبَيْنَهَا‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ فَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ‏;‏ لَأُوهِمَ عَطْفُ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قوله‏:‏ ‏{‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏}‏ وَلَا يَحْسُنُ الْعَطْفُ لِأَجْلِ الْفَصْلِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْقِسْطِ مُخْتَصٌّ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْمُجَازِي الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ بِالْعَدْلِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ‏"‏، ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ الْأُولَى وَصْفٌ وَتَوْحِيدٌ، وَالثَّانِيَةُ‏:‏ رَسْمٌ وَتَعْلِيمٌ، أَيْ قُولُوا‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَمَعْنَى هَذَا‏:‏ أَنَّ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ بِهَا وَأَخْبَرَ بِهَا، وَالتَّالِي لِلْقُرْآنِ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَنْ شَهَادَتِهِ هُوَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَهَادَةٌ مِنَ التَّالِي نَفْسِهِ، فَأَعَادَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَهَا مُجَرَّدَةً لِيَقُولَهَا التَّالِي، فَيَكُونَ شَاهِدًا هُوَ أَيْضًا‏.‏

وَأَيْضًا فَالْأُولَى‏:‏ خَبَرٌ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالثَّانِيَةُ‏:‏ خَبَرٌ عَنْ نَفْسِ التَّوْحِيدِ، وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ تَوْحِيدَهُ وَعَدْلَهُ، وَعِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ، فَالتَّوْحِيدُ‏:‏ يَتَضَمَّنُ ثُبُوتَ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَعَدَمَ الْمُمَاثِلِ لَهُ فِيهَا وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْعَدْلُ يَتَضَمَّنُ وَضْعَهُ الْأَشْيَاءَ مَوْضِعَهَا، وَتَنْزِيلَهَا مَنَازِلَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِمُخَصِّصٍ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَلَا يَمْنَعُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَطَاءَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا، وَالْعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَقَهْرِهِ، وَالْحِكْمَةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ عِلْمِهِ، وَخِبْرَتِهِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ وَنَهَى، وَخَلَقَ وَقَدَّرَ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا كَمَالَ الْحَمْدِ‏.‏

فَاسْمُهُ الْعَزِيزُ يَتَضَمَّنُ الْمُلْكَ، وَاسْمُهُ الْحَكِيمُ يَتَضَمَّنُ الْحَمْدَ، وَأَوَّلُ الْآيَةِ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ كَانَ حَسَنًا فِي نَفْسِهِ وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ كَانَ قَبِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَانَ صِدْقًا، وَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا كَانَ صَوَابًا، وَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ أَوْلَى بِالْإِرَادَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْوَصْفُ عَلَى الْكَمَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ‏.‏

فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ‏:‏ الدَّلَالَةَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ الْمُنَافِيَةِ لِلشِّرْكِ، وَعَدْلِهُ الْمُنَافِي لِلظُّلْمِ، وَعِزَّتِهِ الْمُنَافِيَةِ لِلْعَجْزِ، وَحِكْمَتِهِ الْمُنَافِيَةِ لِلْجَهْلِ وَالْعَيْبِ، فَفِيهَا الشَّهَادَةُ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْعَدْلِ، وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَلِهَذَا كَانَتْ أَعْظَمَ شَهَادَةٍ‏.‏

وَلَا يَقُومُ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ إِلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ، وَسَائِرُ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا يَقُومُونَ بِهَا، فَالْفَلَاسِفَةُ أَشَدُّ النَّاسِ إِنْكَارًا وَجُحُودًا لِمَضْمُونِهَا، مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَطَوَائِفُ الِاتِّحَادِيَّةِ‏:‏ هُمْ أَبْعَدُ خَلْقِ اللَّهِ عَنْهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَطَائِفَةُ الْجَهْمِيَّةِ تُنْكِرُ حَقِيقَتَهَا مِنْ وُجُوهٍ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ، مَحَبَّةً لَهُ، وَاشْتِيَاقًا إِلَيْهِ، وَإِنَابَةً، وَعِنْدَهُمْ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الشَّهَادَةَ كَلَامُهُ وَخَبَرُهُ عَمَّا شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَا يَقُولُ وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَشْهَدُ وَلَا يُخْبِرُ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ مُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَعِنْدَ فِرَعَوْنِيِّهِمْ‏:‏ أَنَّهُ لَا يُبَايِنُ الْخَلْقَ وَلَا يُحَايِثُهُمْ، وَلَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَهٌ يُعْبَدُ، وَلَا رَبٌّ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ‏.‏

وَعِنْدَ حُلُولِيَّتِهِمْ‏:‏ أَنَّهُ حَالٌّ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ، حَتَّى فِي الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يُسْتَحْيَى مِنْ ذِكْرِهَا، فَهَؤُلَاءِ مُثْبِتَةُ الْجَهْمِيَّةِ، وَأُولَئِكَ نُفَاتُهُمْ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْقِسْطِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَعِنْدَهُمْ‏:‏ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ وَلَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ وَلَا قَوْلٌ الْبَتَّةَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ مَخْلُوقٌ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَفِعْلَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُنْفَصِلُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِعْلٌ يَكُونُ بِهِ فَاعِلًا حَقِيقَةً‏:‏ فَلَا‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْقِسْطَ عِنْدَهُمْ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ قِسْطٌ، وَلَيْسَ فِي مَقْدُورِهِ مَا يَكُونُ ظُلْمًا وَقِسْطًا، بَلِ الظُّلْمُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُحَالُ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، وَالْقِسْطُ هُوَ الْمُمْكِنُ، فَنَزَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ- عَلَى قَوْلِهِمْ- عَنِ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ، وَلَا لَهُ صِفَةٌ وَقُدْرَةٌ تُسَمَّى قُدْرَةً وَقُوَّةً‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي يَفْعَلُ لِأَجْلِهَا، وَتَكُونُ هِيَ الْمَطْلُوبَةَ بِالْفِعْلِ، وَيَكُونُ وُجُودُهَا أَوْلَى مِنْ عَدَمِهَا، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ وَلَا غَايَةٍ، بَلْ لَا غَايَةَ لِفِعْلِهِ وَلَا أَمْرِهِ، وَمَا ثَمَّ إِلَّا مَحْضُ الْمَشِيئَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ الْعُلَى، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، الْمُسَمَّى بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي قَامَتْ بِهَا حَقَائِقُهَا وَمَعَانِيهَا، وَهَذَا لَا يُثْبِتُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مَزَاعِمُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ‏]‏

فَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ‏:‏ تَزْعُمُ أَنَّ ذَاتَهُ لَا تُحِبُّ مَزَاعِمَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَوَجْهَهُ لَا يُرَى، وَلَا يُلْتَذُّ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَلَا تَشْتَاقُ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ الْإِلَهِيَّةَ‏.‏

وَالْقَدَرِيَّةُ‏:‏ تُنْكِرُ دُخُولَ أَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ، فَهُمْ مُنْكِرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَمَالِ عِزِّهِ وَمُلْكِهِ‏.‏

وَالْجَبْرِيَّةُ‏:‏ تُنْكِرُ حِكْمَتَهُ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَوَامِرِهِ غَايَةٌ يَفْعَلُ وَيَأْمُرُ لِأَجْلِهَا، فَهُمْ مُنْكِرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ‏.‏

وَأَتْبَاعُ ابْنِ سِينَا، وَالنَّصِيرِ الطُّوسِيِّ وَفُرُوخِهِمَا‏:‏ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مَاهِيَّةٌ غَيْرَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّةِ الْوُجُودِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، لَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَالِاتِّحَادِيَّةُ‏:‏ أَدْهَى وَأَمَرُّ، فَإِنَّهُمْ رَفَعُوا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْأَصْلِ، وَقَالُوا‏:‏ مَا ثَمَّ وُجُودُ خَالِقٍ وَوُجُودُ مَخْلُوقٍ، بَلِ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ الْمُنَزَّهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ‏.‏

فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْعَظِيمَةُ‏:‏ كُلُّ هَؤُلَاءِ هُمْ بِهَا غَيْرُ قَائِمِينَ، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِإِبْطَالِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ، كَمَا تَضَمَّنَتْ إِبْطَالَ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَرَدَّهُ، وَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ طَائِفَتَيِ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ، وَلَا يَقُومُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إِلَّا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَيَنْفُونَ عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ لِلْعِبَادِ وَدَلَالَتَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ‏]‏

وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ لِلْعِبَادِ، وَدَلَالَتَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ شَهِدَ شَهَادَةً لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْعِلْمِ بِهَا‏:‏ لَمْ يَنْتَفِعُوا، وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةَ، كَمَا أَنَّ الشَّاهِدَ مِنَ الْعِبَادِ إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، بَلْ كَتَمَهَا، لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا أَحَدٌ، وَلَمْ تَقُمْ بِهَا حُجَّةٌ، وَإِذَا كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا بِبَيَانِهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَهَا غَايَةَ الْبَيَانِ بِطُرُقٍ ثَلَاثَةٍ‏:‏ السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْعَقْلِ‏.‏

أَمَّا السَّمْعُ‏:‏ فَبِسَمْعِ آيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ الْقَوْلِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِإِثْبَاتِ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِكُتُبِهِ، وَتَكْلِيمِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ تَكَلُّمًا وَتَكْلِيمًا، حَقِيقَةً لَا مَجَازًا‏.‏

وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْ عِبَادِهِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ السَّمْعِيَّةُ مِنْ إِثْبَاتِ مَعَانِيهَا وَحَقَائِقِهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا أَلْفَاظُهَا، فَإِنَّ هَذَا ضِدُّ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، وَيَعُودُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّهَادَةِ بِالْإِبْطَالِ وَالْكِتْمَانِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ الْعَبْدِ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ تُحَقِّقُ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ، وَتَوْحِيدِ الرُّسُلِ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ، وَكَتَمَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ؛ كَانَ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ- كَمَا فَعَلَهُ أَعْدَاءُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ- فَكَيْفَ يُظَنُّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ كَتَمَ شَهَادَةَ الْحَقِّ الَّتِي يَشْهَدُ بِهَا الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْمُعَطِّلَةُ، وَلَا يَشْهَدُ بِهَا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُضَادُّهَا وَيُنَاقِضُهَا، وَلَا يُجَامِعُهَا بِوَجْهٍ مَا‏؟‏ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ‏!‏ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَبِأَنَّهُ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَبِأَنَّ مَلَائِكَتَهُ يَخَافُونَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ، وَتَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ بِهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَصْعَدُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَأْتِي وَيَجِيءُ، وَيَتَكَلَّمُ، وَيَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُحِبُّ وَيَكْرَهُ، وَيَتَأَذَّى، وَيَفْرَحُ وَيَضْحَكُ، وَأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، وَأَنَّهُ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ لِقَائِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَشَهِدَ لَهُ بِهِ رُسُلُهُ، وَشَهِدَتْ لَهُ الْجَهْمِيَّةُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَقَالُوا‏:‏ شَهَادَتُنَا أَصَحُّ، وَأَعْدَلُ مِنْ شَهَادَةِ النُّصُوصِ، فَإِنَّ النُّصُوصَ تَضَمَّنَتْ كِتْمَانَ الْحَقِّ وَإِظْهَارَ خِلَافِهِ‏.‏

فَشَهَادَةُ الرَّبِّ تَعَالَى‏:‏ تُكَذِّبُ هَؤُلَاءِ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ، وَتَتَضَمَّنُ أَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِهِ قَدْ بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ وَأَظْهَرَهُ، حَتَّى جَعَلَهُ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الظُّهُورِ وَالْبَيَانِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِيمَا يَقُولُهُ الْمُعَطِّلَةُ والْجَهْمِيَّةُ لَمْ يَكُنِ الْعِبَادُ قَدِ انْتَفَعُوا بِمَا شَهِدَ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ- عِنْدَهُمْ- لَمْ يَشْهَدْ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَالَّذِي شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَظْهَرَهُ وَأَوْضَحَهُ‏:‏ فَلَيْسَ بِحَقٍّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ الْحَقُّ وَالْيَقِينُ‏.‏

وَأَمَّا آيَاتُهُ الْعِيَانِيَّةُ الْخَلْقِيَّةُ، وَالنَّظَرُ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا‏:‏ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ السَّمْعِيَّةُ، وَآيَاتُ الرَّبِّ‏:‏ هِيَ دَلَائِلُهُ وَبَرَاهِينُهُ الَّتِي بِهَا يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ، وَبِهَا يَعْرِفُونَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَتَوْحِيدَهُ، وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، فَالرُّسُلُ تُخْبِرُ عَنْهُ بِكَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَهُوَ آيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَفْعُولَاتِهِ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَهِيَ آيَاتُهُ الْعِيَانِيَّةُ، وَالْعَقْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، فَيَجْزِمُ بِصِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَتَتَّفِقُ شَهَادَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ- لِكَمَالِ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِلْعُذْرِ، وَإِقَامَتِهِ لِلْحُجَّةِ- لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَمَعَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏‏.‏

حَتَّى إِنَّ مِنْ أَخْفَى آيَاتِ الرُّسُلِ آيَاتُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى قَالَ لَهُ قومه‏:‏ ‏{‏يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ‏}‏ وَمَعَ هَذَا فَبَيِّنَتُهُ مِنْ أَظْهَرِ الْبَيِّنَاتِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ‏:‏ أَنَّ رَجُلًا وَاحِدًا يُخَاطِبُ أُمَّةً عَظِيمَةً بِهَذَا الْخِطَابِ، غَيْرَ جَزِعٍ وَلَا فَزِعٍ، وَلَا خَوَّارٍ، بَلْ وَاثِقٌ مِمَّا قَالَهُ جَازِمٌ بِهِ، قَدْ أَشْهَدَ اللَّهَ أَوَّلًا عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ دِينِهِمْ، وَمِمَّا هُمْ عَلَيْهِ إِشْهَادَ وَاثِقٍ بِهِ، مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، مُعْلِمٍ لِقَوْمِهِ‏:‏ أَنَّهُ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسَلِّطِهِمْ عَلَيْهِ‏.‏

ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ- إِشْهَادَ مُجَاهِرٍ لَهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ-‏:‏ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، الَّتِي يُوَالُونَ عَلَيْهَا وَيُعَادُونَ، وَيَبْذُلُونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي نُصْرَتِهَا‏.‏

ثُمَّ أَكَّدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِالِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ وَازْدِرَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَوْ يَجْتَمِعُونَ كُلُّهُمْ عَلَى كَيْدِهِ، وَشِفَاءِ غَيْظِهِمْ مِنْهُ، ثُمَّ يُعَالِجُونَهُ وَلَا يُمْهِلُونَهُ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُمْ أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ وَأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّكُمْ لَوْ رُمْتُمُوهُ لَانْقَلَبْتُمْ بِغَيْظِكُمْ مَكْبُوتِينَ مَخْذُولِينَ‏.‏

ثُمَّ قَرَّرَ دَعْوَتَهُ أَحَسَنَ تَقْرِيرٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ رَبَّهُ تَعَالَى وَرَبَّهُمْ، الَّذِي نَوَاصِيهِمْ بِيَدِهِ‏:‏ هُوَ وَلِيُّهُ وَوَكِيلُهُ، الْقَائِمُ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَلَا يَخْذُلُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَآمَنَ بِهِ، وَلَا يُشْمِتُ بِهِ أَعْدَاءَهُ، وَلَا يَكُونُ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ- فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ- يَمْنَعُ ذَلِكَ وَيَأْبَاهُ‏.‏

وَتَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ أَنَّ مِنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ أَنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهُ وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ، وَيُنْزِلَ بِهِ بِأْسَهُ، فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الرَّبُّ تَعَالَى، وَمِنْهُ انْتِقَامُهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْإِجْرَامِ، وَنَصْرُهُ أَوْلِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّهُ يَذْهَبُ بِهِمْ، وَيَسْتَخْلِفُ قَوْمًا غَيْرَهُمْ، وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ شَيْئًا، وَأَنَّهُ الْقَائِمُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حِفْظًا وَرِعَايَةً وَتَدْبِيرًا وَإِحْصَاءً‏.‏

فَأَيُّ آيَةٍ وَبُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ أَحْسَنُ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَرَاهِينِهِمْ وَأَدِلَّتِهِمْ‏؟‏ وَهِيَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ، بَيَّنَهَا لِعِبَادِهِ غَايَةَ الْبَيَانِ، وَأَظْهَرَهَا لَهُمْ غَايَةَ الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنُ وَهُوَ- فِي أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ- الْمُصَدِّقُ الَّذِي يُصَدِّقُ الصَّادِقِينَ بِمَا يُقِيمُ لَهُمْ مِنْ شَوَاهِدِ صِدْقِهِمْ، فَهُوَ الَّذِي صَدَّقَ رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فِيمَا بَلَّغُوا عَنْهُ، وَشَهِدَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي دَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِمْ قَضَاءً وَخَلْقًا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ- وَخَبَرُهُ الصِّدْقُ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ- أَنَّهُ لَابُدَّ أَنْ يَرَى الْعِبَادُ مِنَ الْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ حَقٌّ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ أَيِ الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ‏}‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ فَشَهِدَ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَوَعَدَهُ أَنْ يُرِيَ الْعِبَادَ مِنْ آيَاتِهِ الْفِعْلِيَّةِ الْخَلْقَيَّةِ مَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ أَيْضًا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ، وَهُوَ شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ الشَّهِيدَ الَّذِي لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، بَلْ هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُشَاهِدٌ لَهُ، عَلِيمٌ بِتَفَاصِيلِهِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ اسْتِدْلَالٌ بِقَوْلِهِ وَكَلِمَاتِهِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ اسْتِدْلَالٌ بِأَفْعَالِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ قَدْ فَهِمْتُ الِاسْتِدْلَالَ بِكَلِمَاتِهِ وَالِاسْتِدْلَالَ بِمَخْلُوقَاتِهِ، فَبَيِّنْ لِي كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي تَخَاطُبِنَا وَكُتُبِنَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أَجَلْ‏!‏ هُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ كَمَا ذَكَرْتَ، وَشَأْنُهُ أَجَلُّ وَأَعْلَى، فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هُوَ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ، وَآيَاتُهُ هِيَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ‏.‏

فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى نَفْسِهِ بِآيَاتِهِ، فَهُوَ الدَّلِيلُ لِعِبَادِهِ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا نَصَبَهُ لَهُمْ مِنَ الدَّلَالَاتِ وَالْآيَاتِ، وَقَدْ أَوْدَعَ فِي الْفِطَرِ الَّتِي لَمْ تَتَنَجَّسْ بِالتَّعْطِيلِ وَالْجُحُودِ‏:‏ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَامِلُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ، فَالْكَمَالُ كُلُّهُ، وَالْجَمَالُ وَالْجَلَالُ وَالْبَهَاءُ، وَالْعِزَّةُ وَالْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ‏:‏ كُلُّهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْحَيَاةُ كُلُّهَا لَهُ، وَالْعِلْمُ كُلُّهُ لَهُ، وَالْقُدْرَةُ كُلُّهَا لَهُ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْإِرَادَةُ، وَالْمَشِيئَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْغِنَى، وَالْجُودُ وَالْإِحْسَانُ وَالْبِرُّ، كُلُّهُ خَاصُّ لَهُ قَائِمٌ بِهِ، وَمَا خَفِيَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ كَمَالِهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ مِمَّا عَرَفُوهُ مِنْهُ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِمَا عَرَفُوهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا لَمْ يَعْرِفُوهُ‏.‏

وَمِنْ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ‏:‏ اطِّلَاعُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ تَفَاصِيلِهِ، وَلَا ذَرَّةٌ مِنْ ذَرَّاتِهِ، بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ‏:‏ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعِبَادِ أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ، وَأَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ‏؟‏ وَأَنْ يَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ‏؟‏ وَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ أَنْ يُقِرَّ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الْكَذِبِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْصُرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيُعْلِي كَلِمَتَهُ، وَيَرْفَعُ شَأْنَهُ، وَيُجِيبُ دَعْوَتَهُ، وَيُهْلِكُ عَدُوَّهُ، وَيُظْهِرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ مَا تَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ قُوَى الْبَشَرِ، وَهُوَ- مَعَ ذَلِكَ- كَاذِبٌ عَلَيْهِ مُفْتَرٍ، سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ‏؟‏‏؟‏

وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَهَادَتَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَحِكْمَتُهُ وَعِزَّتُهُ وَكَمَالُهُ الْمُقَدَّسُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ بِهِ، وَجَوَّزَهُ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ الْخَلْقِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَإِنْ عُرِفَ مِنْهُ بَعْضُ صِفَاتِهِ، كَصِفَةِ الْقُدْرَةِ وَصِفَةِ الْمَشِيئَةِ‏.‏

وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْخَاصَّةِ، بَلْ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ هُمْ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلَى أَفْعَالِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ‏.‏

وَإِذَا تَدَبَّرْتَ الْقُرْآنَ رَأَيْتَهُ يُنَادِي عَلَى ذَلِكَ، فَيُبْدِيهِ وَيُعِيدُهُ لِمَنْ لَهُ فَهْمٌ وَقَلْبٌ وَاعٍ عَنِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ

ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ‏}‏ أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ يُخْبِرُ سُبْحَانَهُ‏:‏ أَنَّ كَمَالَهُ وَحِكْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ تَأْبَى أَنْ يُقِرَّ مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ‏؟‏ بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِعِبَادِهِ، كَمَا جَرَتْ بِذَلِكَ سُنَّتُهُ فِي الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ‏}‏ هَاهُنَا انْتَهَى جَوَابُ الشَّرْطِ، ثُمَّ أَخْبَرَ خَبَرًا جَازِمًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ‏:‏ أَنَّهُ ‏{‏يَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بِشْرٍ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الْإِرْسَالَ وَالْكَلَامَ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَرَفَهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَلَا عَظَّمَهُ كَمَا يَسْتَحِقُّ، فَكَيْفَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْصُرُ الْكَاذِبَ الْمُفْتَرِيَ عَلَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ‏؟‏ وَيُظْهِرُ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّةَ‏؟‏ وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا، يُسْتَدَلُّ بِكَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ، وَأَوْصَافِهِ وَجَلَالِهِ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ، وَعَلَى وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَيَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يُسْتَدَلُّ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ‏.‏

وَيَسْتَدِلُّ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى بُطْلَانِ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ الْبَاطِلَةِ، وَأَنَّ كَمَالَهُ الْمُقَدَّسَ يَمْنَعُ مِنْ شَرْعِهَا، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، وَقَوْلِهِ عَقِيبَ مَا نَهَى عَنْهُ وَحَرَّمَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عَلَمٍ ‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ فَأَعْلَمَكَ أَنَّ مَا كَانَ سَيِّئُهُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ يَكْرَهُهُ، وَكَمَالُهُ يَأْبَى أَنْ يَجْعَلَهُ شَرْعًا لَهُ وَدِينًا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَدُلُّ عِبَادَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَمَا يُحِبُّهُ وَيَبْغَضُهُ، وَيُثِيبُ عَلَيْهِ وَيُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ الدَّلَالَاتِ بِالْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِنَّهَا أَوْسَعُ وَأَسْهَلُ تَنَاوُلًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُفَضِّلُ بَعْضَ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَيَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏.‏

فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الدَّعْوَةُ وَالْحُجَّةُ، وَهُوَ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ لَهُ، وَهُوَ الْحُكْمُ وَالدَّلِيلُ، وَهُوَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ‏}‏ أَيْ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقَالَ تَعَالَى لِمَنْ طَلَبَ آيَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ يَكْفِي عَنْ كُلِّ آيَةٍ، فَفِيهِ الْحُجَّةُ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَفِيهِ بَيَانُ مَا يُوجِبُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ السَّعَادَةَ، وَيُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ كَانَتْ شَهَادَتُهُ أَصْدَقَ شَهَادَةٍ وَأَعْدَلَهَا، فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ بِعِلْمٍ تَامٍّ، مُحِيطٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، فَيَكُونُ الشَّاهِدُ بِهِ أَعْدَلَ الشُّهَدَاءِ وَأَصْدَقَهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ عِلْمَهُ عِنْدَ شَهَادَتِهِ، وَقُدْرَتَهُ وَمُلْكَهُ عِنْدَ مُجَازَاتِهِ، وَحِكْمَتَهُ عِنْدَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَرَحْمَتَهُ عِنْدَ ذِكْرِ إِرْسَالِ رَسُولِهِ، وَحِلْمَهُ عِنْدَ ذِكْرِ ذُنُوبِ عِبَادِهِ وَمَعَاصِيهِمْ، وَسَمْعَهُ عِنْدَ ذِكْرِ دُعَائِهِمْ، وَمَسْأَلَتَهُ وَعِزَّتَهُ وَعِلْمَهُ عِنْدَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ‏.‏

فَتَأَمَّلْ وُرُودَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى فِي كِتَابِهِ، وَارْتِبَاطَهَا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الِاسْتِشْهَادُ عَلَى الرِّسَالَةِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ‏]‏

وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏}‏ فَاسْتَشْهَدَ عَلَى رِسَالَتِهِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ الِاسْتِشْهَادُ عَلَى رِسَالَةِ النَّبِيِّ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ، وَلَابُدَّ أَنَّ تُعْلَمَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَتَقُومَ بِهَا الْحُجَّةُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لَهُ، وَكَذَلِكَ قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ‏}‏ فَهَذَا كُلُّهُ شَهَادَةٌ مِنْهُ لِرَسُولِهِ، قَدْ أَظْهَرَهَا وَبَيَّنَهَا، وَبَيَّنَ صِحَّتَهَا غَايَةَ الْبَيَانِ، بِحَيْثُ قَطَعَ الْعُذْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ شَاهِدًا لِرَسُولِهِ‏:‏ مَعْلُومٌ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ‏:‏ عَقْلِيِّهَا وَنَقْلِيِّهَا وَفِطْرِيِّهَا وَضَرُورِيِّهَا وَنَظَرِيِّهَا‏.‏

وَمَنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَتَأَمَّلَهُ؛ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لِرَسُولِهِ أَصْدَقَ الشَّهَادَةِ، وَأَعْدَلَهَا وَأَظْهَرَهَا، وَصَدَّقَهُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّصْدِيقِ‏:‏ بِقَوْلِهِ الَّذِي أَقَامَ الْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِهِ فِيهِ، وَبِفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ، وَبِمَا فَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ‏:‏ مِنَ الْإِقْرَارِ بِكَمَالِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يُحْدِثُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ مَا يُقِيمُ بِهِ الْحُجَّةَ، وَيُزِيلُ بِهِ الْعُذْرَ، وَيَحْكُمُ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّجَاةِ وَالظَّفَرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَيَحْكُمُ عَلَى أَعْدَائِهِ وَمُكَذِّبِيهِ بِمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ‏:‏ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى تَحْقِيقِ الْعُقُوبَاتِ الْمُؤَجَّلَةِ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ فَيُظْهِرُهُ ظُهُورَيْنِ‏:‏ ظُهُورًا بِالْحُجَّةِ، وَالْبَيَانِ، وَالدَّلَالَةِ، وَظُهُورًا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالتَّأْيِيدِ، حَتَّى يُظْهِرَهُ عَلَى مُخَالِفِيهِ، وَيَكُونَ مْنُصُورًا‏.‏

وَقوله‏:‏ ‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ‏}‏ فَمَا فِيهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ‏:‏ مِنْ أَعْظَمِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ- وَهُوَ مَعْلُومٌ لَهُ، كَمَا يَعْلَمُ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَعْلُومٌ لَهُ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ- وَإِنَّمَا الْمَعْنَى‏:‏ أَنْزَلَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمِهِ، فَنُزُولُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمِهِ هُوَ آيَةُ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ذَكَرَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ تَكْذِيبًا وَرَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ‏:‏ افْتَرَاهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مِنْ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ مِنَ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ بِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ‏]‏

وَمِنْ شَهَادَتِهِ أَيْضًا‏:‏ مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ‏:‏ مِنَ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ، وَالْيَقِينِ الثَّابِتِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ حُصُولَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ يُوقِعُ أَعْظَمَ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ، وَتَدْفَعُهُ الْفِطَرُ وَالْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، كَمَا تَدْفَعُ الْفِطَرُ- الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ- الْأَغْذِيَةَ الْخَبِيثَةَ الضَّارَّةَ الَّتِي لَا تُغَذِّي، كَالْأَبْوَالِ وَالْأَنْتَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَطَرَ الْقُلُوبَ عَلَى قَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِهِ، وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَفَطَرَهَا عَلَى بُغْضِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، وَالنُّفُورِ عَنْهُ، وَالرِّيبَةِ بِهِ، وَعَدَمِ السُّكُونِ إِلَيْهِ، وَلَوْ بَقِيَتِ الْفِطَرُ عَلَى حَالِهَا لَمَا آثَرَتْ عَلَى الْحَقِّ سِوَاهُ، وَلَمَا سَكَنَتْ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا اطْمَأَنَّتْ إِلَّا بِهِ، وَلَا أَحَبَّتْ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا نَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ إِلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَدَبَّرَهُ أَوْجَبَ لَهُ تَدَبُّرُهُ عِلْمًا ضَرُورِيًا وَيَقِينًا جَازِمًا‏:‏ أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، بَلْ أَحَقُّ كُلَّ الْحَقِّ، وَأَصْدَقُ كُلَّ صِدْقٍ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَصْدَقُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَبَرُّهُمْ، وَأَكْمَلُهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَمَعْرِفَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ فَلَوْ رُفِعَتِ الْأَقْفَالُ عَنِ الْقُلُوبِ لَبَاشَرَتْهَا حَقَائِقُ الْقُرْآنِ، وَاسْتَنَارَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ الْإِيمَانِ، وَعَلِمْتَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَكُونُ عِنْدَهَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ- مِنَ الْفَرَحِ، وَالْأَلَمِ، وَالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ- أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، وَبَلَّغَهُ رَسُولُهُ جِبْرِيلُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، فَهَذَا الشَّاهِدُ فِي الْقَلْبِ مِنْ أَعْظَمِ الشَّوَاهِدِ، وَبِهِ احْتَجَّ هِرَقْلُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ حَيْثُ قَالَ لَهُ‏:‏ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا، فَقَالَ لَهُ‏:‏ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَتْ حَلَاوَتُهُ بِشَاشَةَ الْقُلُوبِ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي يَقْتَرِحُونَهَا لَا تُوجِبُ هِدَايَةً، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي وَيُضِلُّ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ آيَةٍ وَأَجَلِّهَا، وَهِيَ‏:‏ طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ أَيْ بِكِتَابِهِ وَكَلَامِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ‏}‏ فَطُمَأْنِينَةُ الْقُلُوبِ الصَّحِيحَةِ، وَالْفِطَرِ السَّلِيمَةِ بِهِ، وَسُكُونُهَا إِلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ؛ إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَطْمَئِنَّ الْقُلُوبُ وَتَسْكُنَ إِلَى الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْبَاطِلِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَلِمَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ رُسُلِهِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فِي قَوْلِهِ‏(‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ‏)‏ فَيَقُولُ‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ، وَهُمْ أَعْظَمُ شَهَادَةً مِنْ أُولِي الْعِلْمِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ فَوَائِدَ‏.‏

إِحْدَاهَا‏:‏ أَنَّ أُولِي الْعِلْمِ أَعَمُّ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَيَدْخُلُونَ هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ‏.‏

وَثَانِيهَا‏:‏ أَنَّ فِي ذِكْرِ أُولِي الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَتَعْلِيقِهَا بِهِمْ‏:‏ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِلْمِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ إِذَا طَلَعَ الْهِلَالُ وَاتَّضَحَ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ يَرَاهُ، وَإِذَا فَاحَتْ رَائِحَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّمِّ يَشَمُّ هَذِهِ الرَّائِحَةَ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى‏}‏ أَيْ كُلُّ مَنْ لَهُ رُؤْيَةٌ يَرَاهَا حِينَئِذٍ عِيَانًا، فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْجُهَّالِ، وَإِنْ عَلِمَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ مِنْ أُولِي الْجَهْلِ، لَا مِنْ أُولِي الْعِلْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَيُؤَدِّيهَا عَلَى وَجْهِهَا إِلَّا اتْبَاعُ الرُّسُلِ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ، فَهُمْ أُولُو الْعِلْمِ، وَسَائِرُ مَنْ عَدَاهُمْ أُولُو الْجَهْلِ، وَإِنْ وَسَّعُوا الْقَوْلَ وَأَكْثَرُوا الْجِدَالَ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ الشَّهَادَةُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنَّهُمْ أُولُو الْعِلْمِ، فَشَهَادَتُهُ لَهُمْ أَعْدَلُ وَأَصْدَقُ مِنْ شَهَادَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْفِرْعَوْنِيَّةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ، وَأَنَّهُمْ حَشَوِيَّةٌ، وَأَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَأَنَّهُمْ مُجَسِّمَةٌ وَنَوَابِتُ وَنَوَاصِبُ، فَكَفَاهُمْ أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ إِذْ شَهِدُوا لَهُ بِحَقِيقَةِ مَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَأَثْبَتُوا لَهُ حَقِيقَةَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَمَضْمُونَهَا، وَخُصُومُهُمْ نَفَوْا عَنْهُ حَقَائِقَهَا، وَأَثْبَتُوا لَهُ أَلْفَاظَهَا وَمَجَازَاتِهَا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏ضِمْنُ الشَّهَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الشَّاهِدِينَ بِهَا وَتَعْدِيلِهِمْ‏]‏

وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الشَّاهِدِينَ بِهَا وَتَعْدِيلِهِمْ‏.‏ تَضْمِينُ الشَّهَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِثَنَاءٍ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الشَّاهِدِينَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَرَنَ شَهَادَتَهُمْ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ مَلَائِكَتِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِمْ- جَلَّ وَعَلَا- عَلَى أَجَلٍ مَشْهُودٍ بِهِ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ، كَمَا يَحْتَجُّ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْحَقَّ، فَالْحُجَّةُ قَامَتْ بِالرُّسُلِ عَلَى الْخَلْقِ، وَهَؤُلَاءِ نُوَّابُ الرُّسُلِ وَخُلَفَاؤُهُمْ فِي إِقَامَةِ حُجَجِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَفْسِيرُ شَهَادَةِ أُولِي الْعِلْمِ‏]‏

وَقَدْ فُسِّرَتْ شَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ بِالْإِقْرَارِ، وَفُسِّرَتْ بِالتَّبْيِينِ وَالْإِظْهَارِ، وَالصَّحِيحُ‏:‏ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ، فَشَهَادَتُهُمْ إِقْرَارٌ، وَإِظْهَارٌ، وَإِعْلَامٌ، وَهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ‏}‏ فَأَخْبَرَ‏:‏ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ عُدُولًا خِيَارًا، وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُوجِدَهُمْ، لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنَ اتِّخَاذِهِ لَهُمْ شُهَدَاءً يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ- عِلْمًا وَعَمَلًا، وَمَعْرِفَةً وَإِقْرَارًا، وَدَعْوَةً وَتَعْلِيمًا، وَإِرْشَادًا- فَلَيْسَ مِنْ شُهَدَاءِ اللَّهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏}‏ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ‏:‏ هَلْ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَوْ دَاخِلٌ فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ‏؟‏ فَهُوَ بَعْضُ الْمَشْهُودِ بِهِ‏.‏

وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي كَسْرِ ‏"‏ إِنَّ ‏"‏ وَفَتْحِهَا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى كَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَفَتَحَهَا الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ، وَالْوَجْهُ‏:‏ هُوَ الْكَسْرُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ قَدْ تَمَّ، فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُقَرِّرَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّقْرِيرِ، وَأَذْهَبُ فِي الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ كَسْرُ ‏{‏إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ‏}‏ أَحْسَنَ مِنَ الْفَتْحِ، وَكَانَ الْكَسْرُ فِي قَوْلِ الْمُلَبِّي ‏"‏ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ ‏"‏ أَحْسَنَ مِنَ الْفَتْحِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرَ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ وَاقِعَةً عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ، فَهِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏}‏ وَهُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَيَكُونُ فَتْحُ ‏"‏ أَنَّهُ ‏"‏ مِنْ قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏{‏عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَهَذَا تَوْجِيهُ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمَعْنَى عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ هُوَ نَفْسُ قَوْلِهِ ‏"‏ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ‏"‏ فَالْمَشْهُودُ بِهِ ‏"‏ أَنَّ ‏"‏ وَمَا فِي حَيِّزِهَا، وَالْعِنَايَةُ إِلَى هَذَا صُرِفَتْ، وَبِهِ حَصَلَتْ، وَلَكِنْ لِهَذَا الْقَوْلِ- مَعَ ضَعْفِهِ- وَجْهٌ، وَهُوَ‏:‏ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ بِتَوْحِيدِهِ، أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَالْإِسْلَامُ‏:‏ هُوَ تَوْحِيدُهُ سُبْحَانَهُ، فَتَضَمَّنَتِ الشَّهَادَةُ تَوْحِيدَهُ، وَتَحْقِيقَ دِينِهِ‏:‏ أَنَّهُ الْإِسْلَامُ لَا غَيْرُهُ‏.‏

الْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ وَاقِعَةً عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا، كِلَاهُمَا مَشْهُودٌ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْوَاوِ وَإِرَادَتِهَا، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فَتَكُونُ جُمْلَةً اسْتَغْنَى فِيهَا عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ ذِكْرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا فِي قوله‏:‏ ‏{‏ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ فَيَحْسُنُ ذِكْرُ الْوَاوِ وَحَذْفُهَا، كَمَا حُذِفَتْ هُنَا، وَذُكِرَتْ فِي قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏‏.‏

الْوَجْهُ الثَّالِثُ- وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ-‏:‏ أَنْ يَجْعَلَ ‏"‏ أَنَّ ‏"‏ الثَّانِيَةَ بَدَلًا مِنْ الْأُولَى، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَقوله‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏{‏تَوْطِئَةٌ لِلثَّانِيَةِ وَتَمْهِيدٌ، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْبَدَلِ الَّذِي الثَّانِي فِيهِ نَفْسُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْقِيَامُ بِحَقِّهَا، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ بَابِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ، فَلِمَ عَدَلَ إِلَى لَفْظِ الظَّاهِرِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ هَذَا يُرَجِّحُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّهَا أَفْصَحُ وَأَحْسَنُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ افْتَخَرَ الْمُشْرِكُونَ بِآبَائِهِمْ، فَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ‏:‏ لَا دِينَ إِلَّا دِينُ آبَائِنَا، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏}‏ يَعْنِي الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، لَيْسَ لِلَّهِ دِينٌ سِوَاهُ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

وَقَدْ دَلَّ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏}‏ عَلَى أَنَّهُ دِينُ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ قَطُّ وَلَا يَكُونُ لَهُ دِينٌ سِوَاهُ، قَالَ أَوَّلُ الرُّسُلِ نُوحٌ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ وقال إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ ‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ‏}‏، ‏{‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ وقال يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ‏}‏- إِلَى قوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ وقال مُوسَى لِقومه‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ وقالتْ مَلِكَةُ سَبَأٍ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

فَالْإِسْلَامُ دِينُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ، وَدِينُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ، فَأَدْيَانُ أَهْلِ الْأَرْضِ سِتَّةٌ‏:‏ وَاحِدٌ لِلرَّحْمَنِ، وَخَمْسَةٌ لِلشَّيْطَانِ، فَدِيْنُ الرَّحْمَنِ‏:‏ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَالَّتِي لِلشَّيْطَانِ‏:‏ الْيَهُودِيَّةُ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَالْمَجُوسِيَّةُ، وَالصَّابِئَةُ، وَدِينُ الْمُشْرِكِينَ‏.‏

فَهَذَا بَعْضُ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ، وَلَا تَسْتَطِلِ الْكَلَامَ فِيهَا، فَإِنَّهُ أَهَمُّ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى كَلَامِ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ وَبَيَانِ مَا فِيهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا نَطَقَ الْعُلَمَاءُ بِمَا نَطَقُوا بِهِ، وَأَشَارَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى مَا أَشَارُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ‏:‏ لِقَصْدِ تَصْحِيحِ التَّوْحِيدِ، وَمَا سِوَاهُ- مِنْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ-‏:‏ فَكُلُّهُ مَصْحُوبُ الْعِلَلِ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ، فَغَايَتُهَا كُلِّهَا التَّوْحِيدُ، وَإِنَّمَا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ كُلُّهِ لِقَصْدِ تَصْحِيحِهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ مِنْ أَوَّلِ الْمَقَامَاتِ إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهَا تُشِيرُ إِلَى تَصْحِيحِهِ وَتَجْرِيدِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ وَمَا سِوَاهُ- مِنْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ- فَكُلُّهُ مَصْحُوبُ الْعِلَلِ ‏"‏ يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ تَجْرِيدَ التَّوْحِيدِ لَا عِلَّةَ مَعَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مَعَهُ عِلَّةٌ تَصْحَبُهُ لَمْ يُجَرَّدْ، فَتَجَرُّدُهُ يَنْفِي عَنْهُ الْعِلَلَ بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِنَّ الْعِلَلَ تَصْحَبُهَا، وَعِنْدَهُمْ‏:‏ أَنَّ عِلَلَ الْمَقَامَاتِ لَا تَزُولُ بِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، مِثَالُهُ‏:‏ أَنَّ عِلَّةَ مَقَامِ التَّوَكُّلِ أَنْ يَشْهَدَ مَتَوَكِّلًا وَمُتَوَكَّلًا عَلَيْهِ، وَمُتَوَكَّلًا فِيهِ، وَيَشْهَدَ نَفْسَ تَوَكُّلِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِلَّةٌ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ مَقَامُهُ إِلَّا بِأَنْ لَا يَشْهَدَ مَعَ الْوَكِيلِ الْحَقِّ الَّذِي يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا يَرَى تَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَلَا وَسِيلَةً إِلَيْهِ‏.‏

وَفِيهِ عِلَّةٌ أُخْرَى أَدَقُّ مِنْ هَذِهِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ، وَهِيَ‏:‏ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ قَدْ وَكَّلَ أَمْرَهُ إِلَى مَوْلَاهُ، وَالْتَجَأَ إِلَى كِفَايَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ لَهُ، وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ، قَالُوا‏:‏ وَهَذَا فِي طَرِيقِ الْخَاصَّةِ عَمًى عَنِ التَّوْحِيدِ، وَرُجُوعٌ إِلَى الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ قَدْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ، وَوَقَفَ مَعَ الْمُسَبِّبِ وَحْدَهُ، وَالْمُتَوَكِّلِ- وَإِنْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ- فَإِنَّهُ وَاقِفٌ مَعَ تَوَكُّلِهِ، فَصَارَ تَوَكُّلُهُ بَدَلًا مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَفَضَهَا، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا رَفَضَهُ‏.‏

وَتَجْرِيدُ التَّوَكُّلِ عِنْدَهُمْ وَحَقِيقَتُهُ‏:‏ هُوَ تَخْلِيصُ الْقَلْبِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَغَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَقَدَّرَهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إِلَى الْمَوَاقِيتِ، فَالْمُتَوَكِّلُ حَقِيقَةً- عِنْدَهُمْ- هُوَ مَنْ أَرَاحَ نَفْسَهُ مِنْ كَدِّ النَّظَرِ، وَمُطَالَعَةِ السَّبَبِ، سُكُونًا إِلَى مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ الْقَسْمِ، مَعَ اسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ عِنْدَهُ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ‏:‏ أَنَّ الطَّالِبَ لَا يَنْفَعُ، وَالتَّوَكُّلَ لَا يَجْمَعُ، وَمَتَى طَالَعَ بِتَوَكُّلِهِ عَرَضًا كَانَ تَوَكُّلُهُ مَدْخُولًا، وَقَصْدُهُ مَعْلُولًا، فَإِذَا خَلَصَ مِنْ رِقِّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَمُطَالَعَةِ الْعَوَارِضِ، وَلَمْ يُلَاحِظْ فِي تَوَكُّلِهِ سِوَى خَالِصِ حَقِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ؛ كَفَاهُ تَعَالَى كُلَّ مُهِمٍّ، كَمَا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى ‏"‏ كُنْ لِي كَمَا أُرِيدُ، أَكُنْ لَكَ كَمَا تُرِيدُ‏.‏

وَهَذَا الْكَلَامُ وَأَمْثَالُهُ بَعْضُهُ صَوَابٌ، وَبَعْضُهُ خَطَأٌ، وَبَعْضُهُ مُحْتَمَلٌ‏.‏

فَقَوْلُهُ ‏"‏ إِنَّ التَّوَكُّلَ فِي طَرِيقِ الْخَاصَّةِ عَمًى عَنِ التَّوْحِيدِ، وَرُجُوعٌ إِلَى الْأَسْبَابِ ‏"‏ خَطَأٌ مَحْضٌ، بَلِ التَّوَكُّلُ‏:‏ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، وَلَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّوَكُّلِ بَيَانُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِنْ مَقَامَاتِ الرُّسُلِ، وَهُمْ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُتَحَذْلِقُونَ الْمُتَنَطِّعُونَ جَعَلُوهُ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ، وَلَا أَخَصَّ مِمَّنْ أَرْسَلَ اللَّهُ وَاصْطَفَى، وَلَا أَعْلَى مِنْ مَقَامَاتِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ إِنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الْأَسْبَابِ ‏"‏ يُقَالُ‏:‏ بَلْ هُوَ قِيَامٌ بِحَقِّ الْأَمْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ رَبْطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَجَعَلَ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ مِنْ أَقْرَبِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ، فَالتَّوَكُّلُ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمُوَافَقَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَعُبُودِيَّةِ الْقَلْبِ لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَصْحُوبَ الْعِلَلِ‏؟‏ وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ‏؟‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ قَدْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا ‏"‏ يُقَالُ لَهُ‏:‏ هَذَا الرَّفْضُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْكُفْرِ تَارَةً، وَالْفِسْقِ تَارَةً، وَالتَّقْصِيرِ تَارَةً، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِالْأَسْبَابِ، فَمَنْ رَفَضَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُومَ بِهِ فَقَدْ ضَادَ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، وَكَيْفَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَرْفُضَ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا‏؟‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ لَيْسَ الْمُرَادُ رَفْضَ الْقِيَامِ بِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ‏:‏ رَفَضَ الْوُقُوفِ مَعَهَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ الْوُقُوفَ مَعَ الْأَسْبَابِ قِسْمَانِ‏:‏

وُقُوفٌ مَأْمُورٌ بِهِ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ أَنْ يَقِفَ مَعَهَا حَيْثُ أَوْقَفَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَلَا يَتَعَدَّى حُدُودَهَا، وَلَا يَقْصُرُ عَنْهَا، فَيَقِفُ مَعَهَا مُرَاعَاةً لِحُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَهَذَا الْوُقُوفُ لَا تَتِمُّ الْعُبُودِيَّةُ إِلَّا بِهِ‏.‏

وَوُقُوفٌ مَعَهَا، بِحَيْثُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا هِيَ الْفَاعِلَةُ الْمُؤَثِّرَةُ بِنَفْسِهَا، وَأَنَّهَا تَنْفَعُ وَتَضُرُّ بِذَاتِهَا، فَهَذَا لَا يَعْتَقِدُهُ مُوَحِّدٌ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالسُّلُوكِ، نَعَمْ، لَا يَنْقَطِعُ بِهَا عَنْ رُؤْيَةِ الْمُسَبِّبِ، وَيَعْتَقِدُهَا هِيَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ، بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ تُوَصِّلُ إِلَى الْغَايَةِ، وَلَا تَصِلُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِهَا، فَهَذَا حَقٌّ، لَكِنْ لَا يُجَامِعُ رَفْضَهَا وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا، بَلْ يَقُومُ بِهَا، مُعْتَقِدًا أَنَّهَا وَسِيلَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى الْغَايَةِ، فَهِيَ كَالطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ الَّذِي يَقْطَعُهُ الْمُسَافِرُ إِلَى مَقْصِدِهِ، فَإِنْ قِيلَ لَهُ‏:‏ ارْفُضِ الطَّرِيقَ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهَا؛ انْقَطَعَ عَنِ الْمَسِيرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ جَعَلَهَا غَايَتَهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِالسَّيْرِ فِيهَا وُصُولَهُ إِلَى مَقْصِدٍ مُعَيَّنٍ؛ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الْغَايَةِ، مُشْتَغِلًا بِالطَّرِيقِ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ‏:‏ الْتَفِتْ إِلَى طَرِيقِكِ وَمَنَازِلِ سِيَرِكَ، وَرَاعِهَا، وَسِرْ فِيهَا نَاظِرًا إِلَى الْمَقْصُودِ، عَامِلًا عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ الْمُتَوَكِّلُ- وَإِنْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ- وَاقِفٌ مَعَ تَوَكُّلِهِ‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ إِنْ وَقَفَ مَعَ تَوَكُّلِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَدَاءً لِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ، مَعْتَقِدًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِالتَّوَكُّلِ، وَأَقَامَهُ فِيهِ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا مُوَصِّلًا لَهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ، فَنِعْمَ الْوُقُوفُ وَقَفَ، وَمَا أَحْسَنَهُ مِنْ وُقُوفٍ‏!‏ وَإِنْ وَقَفَ مَعَهُ اعْتِقَادًا أَنَّ بِنَفْسِ تَوَكُّلِهِ وَعَمَلِهِ يَصِلُ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَضْلِ رَبِّهِ وَإِعَانَتِهِ، وَمَنِّهِ عَلَيْهِ بِالتَّوَكُّلِ؛ فَهُوَ وُقُوفٌ مُنْقَطِعٌ عَنِ اللَّهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ التَّوَكُّلَ بَدَلٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَفَضَهَا، فَالْمُتَوَكِّلُ مُتَنَقِّلٌ مِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ يُقَالُ لَهُ‏:‏ إِنْ كَانَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي رَفَضَهَا غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهَا، فَالتَّوَكُّلُ الْمُجَرَّدُ خَيْرٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا، فَرَفْضُهُ لَهَا إِلَى التَّوَكُّلِ مَعْصِيَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْأَمْرِ‏.‏

نَعَمْ لِلتَّوَكُّلِ ثَلَاثُ عِلَلٍ عِلَلُ مَقَامِ التَّوَكُّلِ، إِحْدَاهَا‏:‏ أَنْ يَتْرُكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، اسْتِغْنَاءً بِالتَّوَكُّلِ عَنْهَا، فَهَذَا تَوَكُّلُ عَجْزٍ وَتَفْرِيطٍ وَإِضَاعَةٍ، لَا تَوَكُّلُ عُبُودِيَّةٍ وَتَوْحِيدٍ، كَمَنْ يَتْرُكُ الْأَعْمَالَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النَّجَاةِ، وَيَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِهَا وَيَتْرُكُ الْقِيَامَ بِأَسْبَابِ الرِّزْقِ- مِنْ الْعَمَلِ وَالْحِرَاثَةِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا- وَيَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِهِ، وَيَتْرُكُ طَلَبَ الْعِلْمِ، وَيَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِهِ، فَهَذَا تَوَكُّلُهُ عَجْزٌ وَتَفْرِيطٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَجْعَلُ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا، وَعَجْزَهُ تَوَكُّلًا‏.‏

الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِي حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ دُونَ حُقُوقِ رَبِّهِ، كَمَنْ يَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِ مَالٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ رِيَاسَةٍ، وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَإِظْهَارِ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ فَلَيْسَ فِيهِ عِلَّةٌ، بَلْ هُوَ مُزِيلٌ لِلْعِلَلِ‏.‏

الْعِلَّةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ أَنْ يَرَى تَوَكُّلَهُ مِنْهُ، وَيَغِيبُ بِذَلِكَ عَنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ وَشُهُودِ الْفَضْلِ، وَإِقَامَةِ اللَّهِ لَهُ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ رُؤْيَةِ التَّوَكُّلِ عِلَّةً، كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، بَلْ رُؤْيَةُ التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ مِنْ عَيْنِ الْجُودِ، وَمَحْضِ الْمِنَّةِ، وَمُجَرَّدِ التَّوْفِيقِ عُبُودِيَّةٌ، وَهِيَ أَكْمَلُ مِنْ كَوْنِهِ يَغِيبُ عَنْهُ وَلَا يَرَاهُ، فَالْأَكْمَلُ أَنْ لَا يَغِيبَ بِفَضْلِ رَبِّهِ عَنْهُ، وَلَا بِهِ عَنْ شُهُودِ فَضْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ‏.‏

فَهَذِهِ الْعِلَلُ الثَّلَاثُ هِيَ الَّتِي تَعْرِضُ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَقَامَاتِ، وَهِيَ الَّتِي يَعْمَلُ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ عَلَى قَطْعِهَا، وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي سَائِرِ عِلَلِ الْمَقَامَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا مِثَالًا لِمَا يُذْكَرُ مِنْ عِلَلِهَا، وَقَدْ أَفْرَدَ لَهَا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ مُصَنَّفًا لَطِيفًا، وَجَعَلَ غَالِبَهَا مَعْلُولًا، وَالصَّوَابُ‏:‏ أَنَّ عِلَلَهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ، أَنْ يَتْرُكَ بِهَا مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا، وَأَنْ يُعَلِّقَهَا بِحَظِّهِ، وَالِانْقِطَاعِ بِهَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وَأَنْ لَا يَرَاهَا مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ وَمَحْضِ الْجُودِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَالتَّوْحِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَنْوَاعُ التَّوْحِيدِ، الْوَجْهُ الْأَوَّلُ‏:‏ تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ، الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْحَقَائِقِ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ‏:‏ تَوْحِيدٌ قَائِمٌ بِالْقِدَمِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ لَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يَتَفَاوَتُونَ فِي تَوْحِيدِهِمْ- عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَحَالًا- تَفَاوُتًا لَا يُحْصِيهُ إِلَّا اللَّهُ، فَأَكْمَلُ النَّاسِ تَوْحِيدًا‏:‏ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ أَكْمَلُ فِي ذَلِكَ، وَأُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أَكْمَلُ تَوْحِيدًا، وَهُمْ نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ‏.‏

وَأَكْمَلُهُمْ تَوْحِيدًا‏:‏ الْخَلِيلَانِ مُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّهُمَا قَامَا مِنَ التَّوْحِيدِ بِمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُمَا- عِلْمًا وَمَعَرِفَةً وَحَالًا، وَدَعْوَةً لِلْخَلْقِ وَجِهَادًا- فَلَا تَوْحِيدَ أَكْمَلُ مِنَ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَدَعَوْا إِلَيْهِ، وَجَاهَدُوا الْأُمَمَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ- بَعْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَمُنَاظَرَتِهِ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَصِحَّةِ التَّوْحِيدِ، وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ- ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ‏}‏ فَلَا أَكْمَلَ مِنْ تَوْحِيدِ مَنْ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ‏.‏

وَلَمَّا قَامُوا بِحَقِيقَتِهِ- عِلْمًا وَعَمَلًا وَدَعْوَةً وَجِهَادًا- جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَئِمَّةً لِلْخَلَائِقِ، يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ الْخَلَائِقَ تَبَعًا لَهُمْ، يَأْتَمُّونَ بِأَمْرِهِمْ، وَيَنْتَهُونَ إِلَى مَا وَقَفُوا بِهِمْ عِنْدَهُ، وَخَصَّ بِالسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ وَالْهُدَى أَتْبَاعَهُمْ، وَبِالشَّقَاءِ وَالضَّلَالِ مُخَالِفِيهِمْ، وَقَالَ لِإِمَامِهِمْ وَشَيْخِهِمْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ ‏{‏إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ‏}‏ أَيْ لَا يَنَالُ عَهْدِي بِالْإِمَامَةِ مُشْرِكٌ، وَلِهَذَا أَوْصَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَتَبِّعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ، إِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَقُولُوا‏:‏ ‏"‏ أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ، حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏"‏، فَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ التَّوْحِيدُ، وَدِينُ مُحَمَّدٍ‏:‏ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا، وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ‏:‏ هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِطْرَةُ الْإِسْلَامِ‏:‏ هِيَ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ عُبُودِيَّةً وَذُلًّا، وَانْقِيَادًا وَإِنَابَةً‏.‏

فَهَذَا هُوَ تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ الَّذِي مَنْ رَغِبَ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ أَسَفِهِ السُّفَهَاءِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

فَقَسَّمَ سُبْحَانَهُ الْخَلَائِقَ قِسْمَيْنِ فِي التَّوْحِيدِ‏:‏ سَفِيهًا لَا أَسْفَهَ مِنْهُ، وَرَشِيدًا، فَالسَّفِيهُ‏:‏ مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّتِهِ إِلَى الشِّرْكِ، وَالرَّشِيدُ‏:‏ مَنْ تَبَرَّأَ مِنَ الشِّرْكِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَحَالًا، فَكَانَ قَوْلُهُ تَوْحِيدًا، وَعَمَلُهُ تَوْحِيدًا، وَحَالُهُ تَوْحِيدًا، وَدَعَوْتُهُ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ- مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ- قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي‏}‏ أَيْ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيَّ، وَهَذِهِ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ‏:‏ هَلْ وَجَدْتُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا اتِّخَاذَ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ‏؟‏ أَمْ كُلُّهَا نَاطِقَةٌ بِالتَّوْحِيدِ آمِرَةٌ بِهِ‏؟‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ وَالطَّاغُوتُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَكُلُّ مُشْرِكٍ إِلَهُهُ طَاغُوتُهُ‏.‏

وَقَدْ تَكَلَّمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ فِي التَّوْحِيدِ فَقَالَ- بَعْدَ أَنْ حَكَى كَلَامَهُ إِلَى آخِرِهِ-‏:‏ أَمَّا التَّوْحِيدُ الْأَوَّلُ، الَّذِي ذَكَرَهُ‏:‏ فَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ كُلُّهَا، وَبِهِ أَمَرَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَذَكَرَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ بِذَلِكَ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ كُلِّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنَّهُ قَالَ لِقومه‏:‏ ‏{‏اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ وَهَذِهِ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَآخِرُهَا، قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا التَّوْحِيدِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَتَعْلِيقِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ بِهِ، وَحَقِيقَتُهُ‏:‏ إِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ، وَالْفَنَاءُ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ مَقْرُونٌ بِالْبَقَاءِ، وَهُوَ أَنْ تُثْبِتَ إِلَهِيَّةَ الْحَقِّ تَعَالَى فِي قَلْبِكَ، وَتَنْفِي إِلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ، فَتَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَالنَّفْيُ هُوَ الْفَنَاءُ، وَالْإِثْبَاتُ هُوَ الْبَقَاءُ، وَحَقِيقَتُهُ‏:‏ أَنْ تَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِمَحَبَّتِهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ، وَبِخَشْيَتِهِ عَنْ خَشْيَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ بِمُوَالَاتِهِ وَسُؤَالِهِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَرَجَائِهِ وَدُعَائِهِ، وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ، وَاللُّجْءِ إِلَيْهِ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

لَا شَرِيكَ لَهُ‏}‏ الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ‏}‏ وقال عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ‏{‏فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذَا شَطَطًا‏}‏ وقال عَنْ صَاحِبِ يس ‏{‏وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏‏.‏

وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، بَلْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَهُوَ أَوَّلُ الدِّينِ وَآخِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ، وَقُطْبُ رَحَاهُ، وَأَمَرَنَا تَعَالَى أَنَّ نَتَأَسَّى بِإِمَامِ هَذَا التَّوْحِيدِ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ

فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ وَإِذَا تَدَبَّرْتَ الْقُرْآنَ- مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ- رَأَيْتَهُ يَدُورُ عَلَى هَذَا التَّوْحِيدِ، وَتَقْرِيرِهِ وَحُقُوقِهِ‏.‏

قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ وَالْخَلِيلَانِ هُمْ أَكْمَلُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ تَوْحِيدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ تَوْحِيدًا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَنِ الرُّسُلِ، فَضْلًا عَنْ أُولِي الْعَزْمِ، فَضْلًا عَنِ الْخَلِيلَيْنِ، وَكَمَالُ هَذَا التَّوْحِيدِ هُوَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ شَيْءٌ لِغَيْرِ اللَّهِ أَصْلًا، بَلْ يَبْقَى الْعَبْدُ مُوَالِيًا لِرَبِّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ وَمَا أَحَبَّ، وَيُبْغِضُ مَنْ أَبْغَضَ وَمَا أَبْغَضَ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي، وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي، وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ‏]‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَهَذَا تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ، الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ ‏"‏‏.‏

قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، الَّذِي لَا شَيْءَ فَوْقَهُ، وَلَا أَخَصَّ مِنْهُ، وَأَنَّ الْخَلِيلَيْنِ أَكْمَلُ النَّاسِ فِيهِ تَوْحِيدًا، فَلْيَهْنَ الْعَامَّةَ نَصِيُهُمْ مِنْهُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ ‏"‏ أَيْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِهِ وَشَرَفِهِ أَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ، وَنَادَتْ عَلَيْهِ الشَّوَاهِدُ، وَأَوْضَحَتْهُ الْآيَاتُ وَالْبَرَاهِينُ، وَمَا عَدَاهُ فَدَعَاوَى مُجَرَّدَةٌ، لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، وَلَا تَصِحُّ بِشَاهِدٍ، فَكُلُّ تَوْحِيدٍ لَا يَصِحُّ بِشَاهِدٍ فَلَيْسَ بِتَوْحِيدٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْحِيدٌ أَكْمَلَ مِنَ التَّوْحِيدِ الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ، وَالْآيَاتِ، وَتَوْحِيدُ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ كَذَلِكَ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الظَّاهِرُ الْجَلِيُّ، الَّذِي نَفَى الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ ‏"‏‏.‏

فَنَعَمْ، لَعَمْرُ اللَّهِ، وَلِظُهُورِهِ وَجَلَائِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَمَّا الرَّمْزُ وَالْإِشَارَةُ وَالتَّعْقِيدُ، الَّذِي لَا يَكَادُ أَنْ يَفْهَمَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا بِجَهْدٍ وَكُلْفَةٍ فَلَيْسَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا دَعَوْا إِلَيْهِ، فَظُهُورُ هَذَا التَّوْحِيدِ وَانْجِلَاؤُهُ وَوُضُوحُهُ، وَشَهَادَةُ الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ أَنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّوْحِيدِ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ، وَلِذَلِكَ قَوِيَ عَلَى نَفْيِ الشِّرْكِ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا عَظُمَ لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا الْعَظِيمُ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا التَّوْحِيدِ لَدَفَعَ اللَّهُ بِهِ الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ، وَلِعَظَمَتِهِ وَشَرَفِهِ؛ نُصِبَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَأُسِّسَتْ عَلَيْهِ الْمِلَّةُ، وَوَجَبَتْ بِهِ الذِّمَّةُ، وَانْفَصَلَتْ بِهِ دَارُ الْكُفْرِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَانْقَسَمَ بِهِ النَّاسُ إِلَى سَعِيدٍ وَشَقِيٍّ، وَمُهْتَدٍ وَغَوِيٍّ، وَنَادَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ وَالرُّسُلُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَإِنْ لَمْ يَقُومُوا بِحُسْنِ الِاسْتِدْلَالِ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ هُوَ مُسْتَتِرٌ فِي قُلُوبِ أَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ تَقْرِيرًا وَإِيْضَاحًا، وَجَوَابًا عَنِ الْمُعَارِضِ، وَدَفْعًا لِشُبَهِ الْمُعَانِدِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُحْسِنُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى وُجُودِ التَّوْحِيدِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَمَا كُلُّ مَنْ وَجَدَ شَيْئًا وَعَلِمَهُ وَتَيَقَّنَهُ أَحْسَنَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ، وَيُقَرِّرَهُ، وَيَدْفَعَ الشُّبَهَ الْقَادِحَةَ فِيهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَوُجُودُهُ لَوْنٌ، وَلَكِنْ لَابُدَّ- مَعَ ذَلِكَ- مِنْ نَوْعِ اسْتِدْلَالٍ قَامَ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى شُرُوطِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُنَظِّمُهَا أَهْلُ الْكَلَامِ وَغَيْرُهُمْ وَتَرْتِيبِهَا، فَهَذِهِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي التَّوْحِيدِ- لَا فِي مَعْرِفَتِهِ وَالْعِلْمِ بِهِ، وَلَا فِي الْقِيَامِ بِهِ عَمَلًا وَحَالًا- فَاسْتِدْلَالُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ، وَلَا يُحْصِي أَنْوَاعَ الِاسْتِدْلَالِ وَوُجُوهَهُ وَمَرَاتِبَهُ إِلَّا اللَّهُ، فَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، وَلِكُلِّ عِلْمٍ صَحِيحٍ وَيَقِينٍ دَلِيلٌ يُوجِبُهُ، وَشَاهِدٌ يَصِحُّ بِهِ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُ صَاحِبَهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ عَجْزًا وَعِيًّا، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ فَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَلْفَاظِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ الَّذِي عُرِفَ بِهِ الْحَقُّ أَصَحَّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمُقَدِّمَاتِهَا، وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبَهِ، وَأَقْرَبَ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ، وَإِيصَالًا إِلَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ‏.‏

بَلْ مَنِ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ النَّاسِ رَأَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ- أَوْ أَكْثَرَهُمْ- أَعْظَمُ تَوْحِيدًا، وَأَكْثَرُ مَعْرِفَةً، وَأَرْسَخُ إِيمَانًا مِنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَرْبَابِ النَّظَرِ وَالْجِدَالِ، وَيَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا إِيمَانُهُمْ مَا هُوَ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ وَأَصَحُّ مِمَّا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَثُبُوتِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ هِيَ آيَاتٌ مَشْهُودَةٌ بِالْحِسِّ، مَعْلُومَةٌ بِالْعَقْلِ، مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطَرِ، لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهَا إِلَى أَوْضَاعِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ، وَاصْطِلَاحِهِمْ، وَطُرُقِهِمُ الْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ حِسٌّ سَلِيمٌ، وَعَقْلٌ يُمَيِّزُ بِهِ يَعْرِفُهَا وَيُقِرُّ بِهَا، وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا إِلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَاتِ أُلُوفٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَمَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَهَا وَفَهِمَهَا وَعَقَلَهَا انْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنْهَا إِلَى الْمَدْلُولِ أَسْرَعَ انْتِقَالٍ وَأَقْرَبَهُ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ‏:‏ فَمَا كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ يُحْسِنُ تَرْتِيبَ الدَّلِيلِ وَتَقْرِيرَهُ، وَالْجَوَابَ عَنِ الْمُعَارِضِ، وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي ذَكَرَهَا‏:‏ هِيَ الْأَدِلَّةُ، كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَصْنُوعِ عَلَى الصَّانِعِ، وَالْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا تَوْحِيدَ أَكْمَلُ مِنْ تَوْحِيدِهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ بَعْدَ أَنْ يَسْلَمُوا مِنَ الشُّبْهَةِ، وَالْحَيْرَةِ، وَالرِّيبَةِ ‏"‏، الشُّبْهَةُ‏:‏ الشُّكُوكُ الَّتِي تُوقِعُ فِي اشْتِبَاهِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، فَيَتَوَلَّدُ عَنْهَا الْحَيْرَةُ وَالرِّيبَةُ، وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ لَا يَنْفَعُ إِنْ لَمْ يَسْلَمْ قَلْبُ صَاحِبِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي لَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ، فَيَسْلَمُ مِنَ الشُّبَهِ الْمُعَارِضَةِ لِخَبَرِهِ، وَالْإِرَادَاتِ الْمُعَارِضَةِ لِأَمْرِهِ، بَلْ يَنْقَادُ لِلْخَبَرِ تَصْدِيقًا وَاسْتِيقَانًا، وَلِلطَّلَبِ إِذْعَانًا وَامْتِثَالًا‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ بِصِدْقِ شَهَادَةٍ صَحَّحَهَا قَبُولُ الْقَلْبِ ‏"‏، أَيْ سَلِمُوا مِنَ الشُّبْهَةِ وَالْحَيْرَةِ وَالرِّيبَةِ‏:‏ بِصِدْقِ شَهَادَةٍ تَوَاطَأَ عَلَيْهَا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، فَصَحَّتْ شَهَادَتُهُمْ بِقَبُولِ قُلُوبِهِمْ لَهَا، وَاعْتِقَادِهِمْ صِحَّتَهَا، وَالْجَزْمَ بِهَا، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْمُنَافِقِ الَّتِي لَمْ يَقْبَلْهَا قَلْبُهُ، وَلَمْ يُوَاطِئْ عَلَيْهَا لِسَانُهُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ، قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ، ثُمَّ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِالشَّوَاهِدِ أَنَّهَا الرِّسَالَةُ وَالصَّنَائِعُ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ وَالشَّوَاهِدُ‏:‏ الْأَدِلَّةُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالرِّسَالَةُ أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا، وَعُرِفَتْ بِهَا، وَمَقْصُودُهُ‏:‏ أَنَّ الشَّوَاهِدَ نَوْعَانِ‏:‏ آيَاتٌ مَتْلُوَّةٌ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ، وَآيَاتٌ مَرْئِيَّةٌ، وَهِيَ الصَّنَائِعُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَيَجِبُ بِالسَّمْعِ، وَيُوجَدُ بِتَبْصِيرِ الْحَقِّ، وَيَنْمُو عَلَى مَشَاهِدِ الشَّوَاهِدِ ‏"‏‏.‏

هَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ، إِحْدَاهَا‏:‏ مَا يَجِبُ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ‏:‏ مَا يُوجَدُ بِهِ، وَالثَّالِثَةُ‏:‏ مَا يَنْمُو بِهِ‏.‏

فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى‏:‏ فَاخْتَلَفَ فِيهَا النَّاسُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ يَجِبُ بِالْعَقْلِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَالسَّمْعُ مُقَرِّرٌ لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْلِ مُؤَكِّدٌ لَهُ، فَجَعَلُوا وَجُوبَهُ وَالْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ ثَابِتَيْنِ بِالْعَقْلِ، وَالسَّمْعُ مُبَيِّنٌ وَمُقَرِّرٌ لِلْوُجُوبِ وَالْعِقَابِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ لَا يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ، لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلْ لَا يَجِبُ بِالْعَقْلِ فِيهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى نَفْيِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَالْقَوْلَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةِ‏.‏

وَالْحَقُّ‏:‏ أَنَّ وُجُوبَهُ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ، وَالْقُرْآنُ عَلَى هَذَا يَدُلُّ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَيُبَيِّنُ حُسْنَهُ وَقُبْحَ الشِّرْكِ عَقْلًا وَفِطْرَةً، وَيَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ وَيَنْهَى عَنِ الشِّرْكِ، وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْثَالَ، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَخَاطَبَ الْعِبَادَ بِذَلِكَ خِطَابَ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي عُقُولِهِمْ وَفِطَرِهِمْ حُسْنُ التَّوْحِيدِ وَوُجُوبُهُ، وَقُبْحُ الشِّرْكِ وَذَمُّهُ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، كَقوله‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ إِلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ وَنَبَّهَ عَلَيْهَا‏.‏

وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ يَتَأَخَّرُ إِلَى حِينِ وُرُودِ الشَّرْعِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كُلَمَّا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ

قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ‏}‏ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ بِهَذَا الظُّلْمِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا، مَنْ يَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ الظُّلْمُ وَالْقُبْحُ إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَمَنْ يَقُولُ‏:‏ إِنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ عَلَى ظُلْمِهِمْ بِدُونِ السَّمْعِ، فَالْقُرْآنُ يُبْطِلُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ هَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فَأَخْبَرَ‏:‏ أَنَّ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ سَبَبٌ لِإِصَابَتِهِمْ بِالْمُصِيبَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ قَبْلَ إِرْسَالِ الرَّسُولِ الَّذِي يُقِيمُ بِهِ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ

أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ‏}‏- إِلَى قوله‏:‏ ‏{‏بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يُخْبِرُ أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا نَبَّهَهُمْ بِمَا فِي عُقُولِهِمْ وَفِطَرِهِمْ‏:‏ مِنْ حُسْنِ التَّوْحِيدِ وَالشُّكْرِ، وَقُبْحِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَوْفَاةً مِنْ كِتَابِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا، تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ نَفَى الْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ مَا يَقْتَضِي حُسْنَهَا وَلَا قُبْحَهَا، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِعَيْنِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَيَنْهَى عَنْ عَيْنِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لَا بِحُسْنٍ هَذَا وَقُبْحِ هَذَا، وَأَنَّهُ لَوْ نَهَى عَنِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ لَكَانَ قَبِيحًا، وَلَوْ أَمَرَ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ لَكَانَ حَسَنًا، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفٌ لِلْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ ‏"‏ وَيَجِبُ بِالسَّمْعِ ‏"‏، وَأَنَّ الصَّوَابَ وُجُوبُهُ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ الْإِيجَابِ، فَالْعَقْلُ يُوجِبُهُ‏:‏ بِمَعْنَى اقْتِضَائِهِ لِفِعْلِهِ، وَذَمِّهِ عَلَى تَرْكِهِ، وَتَقْبِيحِهِ لِضِدِّهِ، وَالسَّمْعُ يُوجِبُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَزِيدُ‏:‏ إِثْبَاتَ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ، وَالْإِخْبَارَ عَنْ مَقْتِ الرَّبِّ تَعَالَى لِتَارِكِهِ، وَبُغْضِهِ لَهُ، وَهَذَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَقَرَّرَ قُبْحُ الشَّيْءِ وَفُحْشُهُ بِالْعَقْلِ، وَعُلِمَ ثُبُوتُ كَمَالِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا‏:‏ اقْتَضَى ثُبُوتُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ‏:‏ عِلْمَ الْعَقْلِ بِمَقْتِ الرَّبِّ تَعَالَى لِمُرْتَكِبِهِ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ الْعِقَابِ، وَمَا يُوجِبُهُ مَقْتُ الرَّبِّ مِنْهُ‏:‏ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حُسْنُ التَّوْحِيدِ وَقُبْحُ الشِّرْكِ مَعْلُومًا بِالْعَقْلِ، مَسُتَقِرًّا فِي الْفِطَرِ، فَلَا وُثُوقَ بِشَيْءٍ مِنْ قَضَايَا الْعَقْلِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ مِنْ أَجَلِّ الْقَضَايَا الْبَدِيهِيَّاتِ، وَأَوْضَحِ مَا رَكَّبَ اللَّهُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَلِهَذَا يَقُولُ سُبْحَانَهُ عَقِيبَ تَقْرِيرِ ذَلِكَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَيَنْفِي الْعَقْلَ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ فِي النَّارِ‏:‏ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ مُوجَبِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ‏}‏ وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّ سَمْعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَفْئِدَتَهُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ‏"‏ انْظُرُوا ‏"‏ وَ ‏"‏ اعْتَبِرُوا ‏"‏ وَ ‏"‏ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ‏"‏ فَائِدَةٌ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ عُقُولُنَا لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ إِخْبَارِكَ، فَمَا هَذَا النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ‏؟‏ وَمَا هَذِهِ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ، وَالْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّوَاهِدُ الْعِيَانِيَّةُ‏؟‏ أَفَلَيِسَ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ دَلِيلٍ عَلَى حُسْنِ التَّوْحِيدِ وَالشُّكْرِ‏؟‏

وَقُبْحُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، مَعْلُومٌ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ، وَعَقْلٌ سَلِيمٌ، وَفِطْرَةٌ صَحِيحَةٌ‏؟‏ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

وَمِنْ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ‏:‏ مَا أَبْقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آثَارِ عُقُوبَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَآثَارِ دِيَارِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ، وَمَا أَبْقَاهُ مِنْ نَصْرِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَإِعْزَازِهِمْ، وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ‏}‏ وقال فِي ثَمُودَ ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏ وقال فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏{‏إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ

وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ‏}‏ وقال تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مَا أَوْقَعَ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَيَذْكُرُ إِنْجَاءَهُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ فَيَذْكُرُ شِرْكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا بِهِ الْهَلَاكَ، وَتَوْحِيدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا بِهِ النَّجَاةَ، ثُمَّ يُخْبِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ آيَةً وَبُرْهَانًا لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَذْكُرُ مَصْدَرَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَصُدُورُ هَذَا الْإِهْلَاكِ عَنْ عِزَّتِهِ، وَذَلِكَ الْإِنْجَاءِ عَنْ رَحْمَتِهِ، ثُمَّ يُقَرِّرُ فِي آخِرِ السُّورَةِ نُبُوَّةَ رَسُولِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ، وَيُجِيبُ عَنْ شُبَهِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ أَحْسَنَ جَوَابٍ، وَكَذَلِكَ تَقْرِيرُهُ لِلْمَعَادِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ، فَضَرَبَ الْأَمْثَالَ وَالْأَقْيِسَةَ، فَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ سَمْعِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَيُوجَدُ بِتَبْصِيرِ الْحَقِّ، وُجُوبُ الشَّيْءِ شَرْعًا لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ حِسًّا، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ مَا يُوجَدُ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَجِبُ بِهِ، وَهُوَ تَبْصِيرُ الْحَقِّ تَعَالَى، وَمُرَادُهُ‏:‏ التَّبْصِيرُ التَّامُّ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ عَنْهُ الْهِدَايَةُ، وَإِلَّا فَقَدْ يُبْصِرُ الْعَبْدُ الْحَقَّ وَلَا تُوجَدُ مِنْهُ الْهِدَايَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ فَهُوَ- سُبْحَانَهُ- بَصَّرَهُمْ، فَآثَرُوا الضَّلَالَ عَلَى الْهُدَى، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ فَهَذَا التَّبْصِيرُ لَمْ يُوجِبْ وُجُودَ الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرِدْ وُجُودَهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ وُجُودَ مُجَرَّدِ الْبَصِيرَةِ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ‏.‏

وَأَمَّا التَّبْصِيرُ التَّامُّ‏:‏ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْهِدَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ إِيَّاهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ فَعَمَّ بِدَعْوَتِهِ الْبَيَانَ وَالدَّلَالَةَ، وَخَصَّ بِهِدَايَتِهِ التَّوْفِيقَ وَالْإِلْهَامَ، فَلَوْ قَالَ الشَّيْخُ‏:‏ وَيُوجَدُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ بَعْدَ تَبْصِيرِهِ، لَكَانَ أَحْسَنَ، وَلَعَلَّهُ هُوَ مُرَادُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَيَنْمُو عَلَى مُشَاهَدَةِ الشَّوَاهِدِ ‏"‏ وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ الْإِجَابَةُ لِدَاعِي الْحَقِّ، فَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ مُشَاهَدَةِ الشَّوَاهِدِ فِي نُمُوِّهِ ‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ‏}‏ يَمُرُّ عَلَيْهَا الْعَبْدُ وَلَا يَنْمُو بِهَا وَلَا يَزِيدُ، بَلْ يَنْقُصُ إِيمَانُهُ وَتَوْحِيدُهُ، فَإِذَا أَجَابَ الدَّاعِي وَتَبَصَّرَ فِي الشَّوَاهِدِ نَمَا تَوْحِيدُهُ، وَقَوِيَ إِيمَانُهُ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏‏.‏

وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُ الشَّيْخِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ‏:‏ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ يَنْمُوَانِ وَيَتَزَايَدَانِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِي فَارَقُوا بِهِ الْجَهْمِيَّةَ وَالْمُرْجِئَةَ‏.‏